دوام الحال من المحال.. عندما فكرت الحكومة بصوت مرتفع!

دوام الحال من المحال.. عندما فكرت الحكومة بصوت مرتفع!

تقريباً كل أو معظم الإجراءات الحكومية على المستوى الاقتصادي والخدمي وحتى المعيشي في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة نستطيع أن ندرجها تحت عنوان عريض "التفكير بصوت مرتفع"، لكن هذا التفكير كان من طرف واحد، واقترن مباشرةً بالتنفيذ "التجريبي"، فبدى وكأنه عدوان على مكتسبات المواطنين، التي تعتبر جزء أصيل من عقد اجتماعي رسم شكل العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وأبرز تلك المكتسبات كانت تتمثل بدعم بعض المواد التي يتحصل عليها المواطن بشكل مباشر، أو التي تنعكس على أسعار سلع وخدمات أساسية.

حكومة المهندس حسين عرنوس الحالية قفزت بالسؤال إلى مستوى جديد، فاتجهت إلى تقسيم المجتمع إلى شريحتين (شريحة مدعومة وأخرى غير مدعومة)

الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011 (بدءاً من حكومة عادل سفر) كانت مطالبة بتقديم إجابة على السؤال الصعب ومفاده: "إلى متى يمكن الاستمرار بسياسات ما قبل العام 2011؟، ومع بداية عهد حكومة الدكتور وائل الحلقي كأول حكومة عمرت لأربع سنوات (ولاية كاملة) بدأ هذا السؤال يتحول إلى برامج تنفيذية تحت ضغط شح الموارد، فسمعنا لأول مرة مصطلح "ترشيد الدعم ثم عقلنة الدعم"، بهدف إيصال الدعم لمستحقيه، وعليه ارتفع سعر المشتقات النفطية عدة مرات، وأيضاً سعر الكهرباء ارتفع، كذلك الحال بالنسبة للأسمدة، والاسمنت، وباقي السلع والخدمات التي توفرها الدولة وتتحكم بسعرها بشكل مباشر، نتج عن ذلك ارتفاع متتالي لأسعار المستهلك، بينما كانت القوة الشرائية تتآكل، وإنتاجية مختلف القطاعات تضعف.

واستمرت حكومة المهندس عماد خميس التي تسلمت مهامها في العام 2016 على نفس المنوال، وكان الإجراء الأبرز في تلك المرحلة إصدار البطاقة الالكترونية، كإجراء موازي، بهدف تقنين استهلاك المواد المدعومة وتوزيع النقص على جميع المواطنين، لكن كل ذلك لم يأت بنتائج مرضية خاصة ان متوالية التضخم بلغت من التسارع ما يجعلها قادرة على ابتلاع كل الوفورات مهما بلغ حجمها، لتأتي حكومة المهندس حسين عرنوس الحالية في العام 2020 وتقفز بالسؤال إلى مكان آخر، فاتجهت إلى تقسيم المجتمع إلى شريحتين (شريحة مدعومة وأخرى غير مدعومة) ولولا كثرة الأخطاء التي شابت قاعدة البيانات التي اعتمدت عليها الحكومة في هذا التقسيم، لمرت الأمور بسلاسة واكتسبت إجراءات الحكومة ثقة تخولها الانتقال لمراحل أكثر جرأة في هذا المسار، فالمواطن قبل الحكومة لديه يقين ان سوريا الدولة ما بعد الحرب ليست هي نفسها قبل العام 2011 لجهة تناقص الموارد التي كانت متاحة.

عندما طرحت المسابقة المركزية التي قادتها وزارة التنمية الإدارية في العام 2020 بدت وكأنها نوع من التفكير بصوت مرتفع ضمن توجه أشمل يتعلق بتغيير آلية استقطاب العمالة إلى القطاع العام.

الآن لنترك مسألة الدعم جانباً، وننتقل إلى مستويات أخرى من الأسئلة، لننظر مثلاً إلى مسألة العمالة الفائضة في المؤسسات الحكومية المختلفة، وسبل حلها، طبعاً هذا الفائض التراكمي تشكل نتيجة ما كان يسمى لعقود خلت بسياسة التوظيف الاجتماعي، وكان الهدف دائماً امتصاص أكبر قدر ممكن من البطالة، والتشوه الأكبر الناتج عن هذه السياسة ظهر بشكل فاقع مع بداية الحرب على سورية في العام 2011، وتحديداً مع انتقال أعداد هائلة من موظفي المؤسسات العامة الواقعة في المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة إلى ما يناظرها من مؤسسات في المحافظات الآمنة، طبعاً بعد عودة الأمان لتلك المناطق كان من الصعب إعادة كل هؤلاء الموظفين إلى مؤسساتهم ومناطقهم الاصلية فبقي الكثير منهم في مراكز عملهم الجديدة.

عندما طرحت المسابقة المركزية التي قادتها وزارة التنمية الإدارية في العام 2020 بدت وكأنها نوع من التفكير بصوت مرتفع ضمن توجه أشمل يتعلق بتغيير آلية استقطاب العمالة إلى القطاع العام، وكان الحديث وقتها حول سد الشواغر والنقص الناتج عن انزياحات في توزع العمالة نتيجة الحرب، وبالفعل حددت الوزارات المختلفة الشواغر الوظيفية المتوفرة لديها وفق الحاجة الفعلية، إلا ان هذه التجربة اصطدمت مجدداً بسوء التوزيع، وفشلت في ملء شواغر بعض القطاعات وربما اهمها، فزادت من تكدس العمالة الفائضة في مكان، بينما مطارح أخرى بقيت تعاني النقص، وخاصة تلك التي تحتاج إلى اختصاصات مهنية محددة، وعمالة يدوية، كعمال البلديات، والاتصالات، والكهرباء، والمصانع، طبعاً الحكومة تحاول معالجة هذا الوضع من خلال ما سمي بنظام التحفيز الوظيفي، الذي يتيح منح علاوات على الرواتب لفئات محددة من الموظفين دون غيرهم، لكن هذه العلاوات من المستبعد أن تتمكن من استقطاب أو حتى الحفاظ على الفئات المستهدفة، نظراً لتدني الأجور التي على أساسها تحتسب الحوافز.

حالياً يقدر متوسط راتب الموظف الحكومي بحدود 20 دولار، بينما كان راتبه قبل العام 2011 أكثر من 200 دولار!، أي أن رواتب 10 موظفين حالياً تعادل راتب موظف واحد قبل ذلك التاريخ!.

تعتقد الحكومة الحالية بحسب تصريحات لكبار مسؤوليها أن تكدس العمالة الفائضة في مؤسسات الدولة، تسبب بتضخم فاتورة الرواتب ويمنع من زيادتها بالشكل المطلوب، وسبق أن أشار رئيس الحكومة الأسبق الدكتور وائل الحلقي في إحدى المناسبات إلى أن الموظف الحكومي في كثير من المؤسسات لا يعمل بشكل فعلي أكثر من نصف ساعة!، ريما يكون الأمر كذلك، لكن هذا لا يعني أن أي تخفيض في عدد الموظفين سيقلص كتلة الرواتب، على اعتبار أن الحكومة في حال نجحت في مسعى كهذا، ونقصد الاستغناء عن قسم من موظفيها، ستكون مضطرة لدفع رواتب حقيقية للموظفين الباقين!، حالياً يقدر متوسط راتب الموظف الحكومي بحدود 20 دولار، بينما كان راتبه قبل العام 2011 أكثر من 200 دولار!، أي أن رواتب 10 موظفين حالياً تعادل راتب موظف واحد قبل الحرب!.

دوام الحال من المحال:

المستويات الأصعب من الأسئلة والتي لا بد من مواجهتها، هي تلك التي تتعلق بالبدائل، فما هو بديل انسحاب الدولة من جميع أنواع الدعم الذي تقدمه في قطاعات مختلفة؟، وكيف سيكون التعامل مع الفئات الهشة من المجتمع إن حدث شيء من هذا القبيل؟، أو ما هو بديل توقف المؤسسات الحكومية عن امتصاص أعداد غفيرة من طالبي العمل من خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة، في ظل تقلص دور القطاع الخاص في انتاج فرص العمل مناسبة لمختلف اختصاصات هؤلاء الخريجين؟، وسيكون من غير المنطقي إحداث فراغ مفاجئ في مطارح شغلتها الدولة لعقود على حساب عجوزات الموازنة، في حين أن الاستمرار في ذلك بات من المحال!.

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


آخر المقالات

استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني