"مراهقة إعلامية".. في مديح الفشل!

"مراهقة إعلامية".. في مديح الفشل!

لم تنجح الجهات الحكومية إلى اليوم في انتاج خطاب إعلامي واعي لمواجهة جمهور مستاء من كل شيء، تقريباً الحكومة خسرت جميع جولاتها الإعلامية بدءاً من تسويق النشاطات الرسمية مروراً بتبرير التقصير والإخفاقات في تقديم الخدمات الأساسية وصولاً إلى ترويج القرارات المرافقة لهذا الإخفاق.

هناك من يرمي بمسؤولية هذا الفشل على العاملين في المكاتب الإعلامية لدى الوزارات والمؤسسات العامة (بعضهم منتدب من مؤسسات إعلامية حكومية وبعضهم موظف في المؤسسة نفسها)، لكنهم في كلتا الحالتين يقعون تحت سلطة القائد الإداري الأعلى في المؤسسة، الأمر الذي حولهم إلى مجرد حاشية للمسؤول، بمعنى أن هؤلاء العاملين ستكون أولوية عملهم تظهير الجانب المشرق للوزير أو المحافظ أو حتى المدير والدفاع عنه وعن قراراته ولو كان ذلك على حساب المؤسسة نفسها.

ما الذي تغير؟

لعقود كان الإعلام الرسمي صوت الحكومة ومنبرها الوحيد، بمعنى أنه المعني الأول بتغطية النشاطات والاجتماعات، ونشر البيانات، وتصريحات المسؤولين.. الخ، وهو كذلك إلى الآن نسبياً، لكنه في ذات الوقت امتلك هامشاً جيداً لتسليط الضوء على خلل هنا وتقصير هناك، وكانت تعالج الأمور بين الحكومة وإعلامها من خلال نشر رد الجهة التي طالها الانتقاد وفقاً لما يقتضيه القانون.

لكن منذ عدة سنوات ذهبت أغلب الجهات العامة لإنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديداً "فيسبوك"، وبدأت تلك الجهات تعتمد على نفسها في تحرير ونشر الأخبار، وتغطية النشاطات، بمعنى أن المواد الصحفية لم تعد تخضع لفلترة صحفية احترافية في وسائل الاعلام الرسمية، ونقصد بالفلترة الاحترافية هنا تخفيف المبالغات في إظهار النشاط وراعي هذا النشاط، مع منح صبغة صحفية رسمية للخبر وإخضاعها لتدقيق لغوي صارم، كون المادة الصحفية قبل أن تأخذ طريقها للنشر في الإعلام الرسمي تمر على عدة مستويات (محرر ورئيس دائرة ومدير تحرير ومدقق لغوي).

وبالتالي تفلتت المادة الصحفية التي يحيكها العاملون في المكاتب الاعلامية من كل هذه الضوابط، وراح رؤساء تلك المكاتب والمشرفين على صفحات الفيسبوك الخاصة بالجهات العامة ينشرون ويبالغون في تظهير الإنجازات والنشاطات للمسؤولين فيها، مع التركيز المفرط على تصريحات وصور المسؤول (في المنشور الواحد يمكن أن تشاهد 10 صور للمسؤول، ويمكن أن يختزل الحدث كله بتصريح لهذا المسؤول)، تماماً كما حدث مؤخراً في اجتماع لمجلس نقابة المعلمين حضره وزير التربية، الوزير بدا المتحدث الوحيد في الخبر، بينما نقلت جملة واحدة بأربع أو خمس كلمات عن نقيب المعلمين!.

شيء من هذا القبيل:

منذ عدة أيام نشرت جريدة "الوحدة" الحكومية مقالاً أشارت فيه لوجود تعميم صادر عن محافظ اللاذقية يمنع إعطاء أي معلومة لوسائل الاعلام إلا من خلال المكتب الصحفي في المحافظة، وهو ما اعتبرته الصحيفة خطوة نحو تحجيم الاعلام ودوره، ومرت عدة أيام على المقالة قبل أن يعمد المحافظ وبعيداً عن المهنية في التعامل مع وسائل الإعلام إلى التصريح عبر صحيفة أخرى خاصة ينفي وجود هذا التعميم الذي يمنع مديري المحافظة من التعامل مع الاعلام، وكمؤشر على عدم اطلاعه على الأمر برمته، قال إن كل ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي حول هذا الأمر لا أساس له من الصحة، طبعاً النشر حول هذا التعميم كان عبر مؤسسة إعلامية رسمية، إلا إذا كان المحافظ يعتقد أن صحيفة "الوحدة" مجرد "صفحة فيسبوك".

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، وخرج مدير المكتب الاعلامي في المحافظة ليدافع عن موقفه، مؤكداً وجود تعميم يخص أجهزة الإدراة المحلية يدعو إلى التنسيق مع المكتب الصحفي للمحافظة لمعرفة الجهة التي تطلب اللقاء وموضوعه، ما اضطر رئيس تحرير الصحيفة لنشر مقالاً جديداً اتهمت فيه مدير المكتب الاعلامي بمحاولة التشهير بصحيفة حكومية، وتحجيم دور وزملائه!، طبعاً هذا الجدل الذي يمكن وصفه بـ "المراهقة الاعلامية" ما كان ليحدث لو أن المحافظة تعاملت بمهنية مع الموقف، وأرسلت رداً توضيحياً للصحيفة، وبالتالي كان من واجب الصحيفة نشره "وكفى المؤمنين شر القتال"، وبحسب المعلومات فإن المحافظ عاد واعتذر من الصحيفة، إن صحت المعلومات فهي بادرة جيدة.

هذه المراهقة الإعلامية" إذا ما صح الوصف، تمارس كثيراً على صفحات الفيسبوك التابعة للمؤسسات العامة، وهذه الممارسة لعبت دوراً كبيراً في فقدان الثقة بهذه المؤسسات، بدليل أن معظم التفاعلات والتعليقات على المنشورات تأخذ منحى "التفاعل السلبي".

منذ مدة مثلاً اضطرت وزارة التجارة الداخلية لنشر توضيح ثم نشر توضيح للتوضيح، حدث ذلك عندما نشرت تحذيراً بتجريم كل منشأة تتعامل مع السوق السوداء للمحروقات دون التبليغ عن البائع، واعتباره شريكاً، ثم عادت ونشرت توضيحاً آخر حول نفس الموضوع كرد على الجدل الذي أحدثه تحذيرها الأول متهمة من انتقد التحذير بـشرعنة السوق السوداء، ثم ألحقته بتوضيح آخر بأن تحذيرها كان مقتصراً على الفعاليات والمنشآت الاقتصادية ولم تقصد المواطن، ثم عادت في منشور جديد كـمحاولة لقوننة منشوراتها السابقة حول نفس الموضوع، وأشارت إلى الفقرة الأولى من المادة 220 من قانون العقوبات، وبالمرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2021، واستنتجت أن من ينشر أو يكتب لتبرير الشراء من السوق السوداء إنما هو يخالف القانونين!.

على كل حال هناك أمثلة كثيرة على هذا التخبط الإعلامي الذي تقع فيه مختلف المؤسسات العامة، ومرده استسهال النشر من جهة والتدخل السافر للمسؤولين في المحتوى الذي تقدمه هذه المكاتب الاعلامية دون أدنى معرفة أو مهنية!.

طبعاً الجدل حول دور المكاتب الاعلامية في المؤسسات قديم ويتجدد بين الفينة والأخرى، ووزارة الاعلام عملت في السنوات الأخيرة على تنشيط هذا الدور، وأخضع العامليـن فيها لكثير من الاجتماعات والتوجيهات، إلا أن هذا التدخل من وزارة الاعلام على ما يبدو لم ينفع إلى الآن في دفع هذه المكاتب لانتاج خطاب إعلامي متوازن وواعي يحترم عقل المتلقي، خارج عباءة المسؤولين الذين غالباً يعتبرون أنفسهم أهم من المؤسسة التي يديرونها!.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


آخر المقالات

استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني