"التغريبة السورية".. حلم الوصول إلى بلاد اللجوء ومنغصات الاندماج في مجتمعات لا تشبههم

"التغريبة السورية".. حلم الوصول إلى بلاد اللجوء ومنغصات الاندماج في مجتمعات لا تشبههم

تحقيق: ميسون حداد

يشتعل النقاش عند السوريين اليوم بين من يرى في السفر والهجرة خلاصاً من الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة وأملاً بحياة مستقرة وعادلة تؤمنها دول اللجوء حسب اعتقادهم، وبين من اختبر اللجوء في دول الغرب بالفعل وخاض غمار الاندماج في مجتمعات تختلف بقيمها ومبادئها وعاداتها وتقاليدها عن المجتمع الأصلي.


يسجل السوريون منذ سنوات النسب الأعلى بين المهاجرين، على الأقل تخبرنا أعداد الضحايا بذلك، تقريباً معظم حوادث الغرق لمراكب المهاجرين، يكون عدد كبير من ضحاياها من الجنسية السورية، ورغم ذلك مازال هاجس الهجرة يراود الكثير من شعب هذه البلاد التي طحنتها الحرب على مدار 12 عاماً ولكل منهم أسبابه ودوافعه، بالمقال هناك موجة لجوء معاكسة إن صح التعبير، عدد يبدو قليلاً ممن أصبحوا لاجئين في الدول الأوربية بدأ يفكر أو فكر بالعودة، منهم من عاد بالفعل.


تلقي المشهد في هذا التحقيق الضوء على تجارب متنوعة لمهاجرين بدأوا لتوهم اكتشاف مجتمعهم الجديد، وينتمون لموجة الهجرة التي عقبت نشوب الحرب السورية، اضافة الر هواجس الحالمين بعبور البحر بعد أن فقدوا الأمل بمستقبل بلدهم.


 قد لا تكون الحياة في أوربا سهلة أو مفروشة بالورود، لكن لا شك أن الحياة هناك يسودها النظام والانضباط والقانون ما يكفل بحماية إنسانية الانسان


"راتبي التقاعدي لا يتجاوز ثمن وجبة في دول اللجوء"، يقول "شحادة" الرجل الخمسيني الذي حصل مؤخراً على استقالة مبكرة من وظيفته الحكومية، يروي للمشهد محاولاته الحثيثة لسفر آمن: "بعت سيارتي وبعض الممتلكات، كي أجمع المال اللازم للسفر، ومع ذلك سأضطر لاستدانة بقية المبلغ، أريد أن أكمل حياتي بكرامة"، يعتقد كما الكثير من السوريين أن ما توفره دول اللجوء من قوانين وأنظمة كفيلة بحماية إنسانيته وحقوقه، ثم يستدرك قائلاً: " قد لا تكون الحياة في أوربا سهلة أو مفروشة بالورود، لكن لا شك أن الحياة هناك يسودها النظام والانضباط والقانون ما يكفل بحماية إنسانية الانسان.


يتابع الرجل متجازاً كل ما يشاع ويقال عن حياة تلك المجتمعات في أوروبا التي تختلف جذرياً عن مجتمعه الأصلي من حيث العادات والتقاليد والحريات التي قد تتعارض جذرياً مع قناعاته: "أنا شخص أتقبل المجتمع الغربي وأدعو للمجتمع المدني، وفصل الدين عن السياسة، وبالنسبة للتحولات الجنسية، أرى أن الإنسان كائن حر،  أن يكون جاري مثلياً محترماً أفضل بالنسبة لي من جار داعشي بفكره وعمله!.


 الاندماج بالنسبة للمجتمع السويدي، هو أن تحترم حدودك وحدود غيرك دون تطفل، وتحترم القوانين


فيما يروي "علاء" أحد المغتربين في السويد ممن هاجروا خلال الموجة التي بدأت منذ عدة سنوات عن تجربته للمشهد: "منذ وصولنا كمهاجرين، أقامت البلديات بالكثير من النشاطات المجانية لتساعدنا على تقبل ثقافة المجتمع الجديد والاندماج فيه.


ويتابع بتفصيل أكثر: "الاندماج بالنسبة للمجتمع السويدي، هو أن تحترم حدودك وحدود غيرك دون تطفل، وتحترم القوانين، ولكن يبقى اسمك يندرج تحت مسمى (ذو أصول أجنبية) ولن تصبح مواطناً سويدياً، هم يتقبلوننا ولكن لا يعتبروننا منهم، هكذا باختصار، فمثلاً: "لا يستطيع المهاجر السكن في مناطق السويديين لأنها باهظة الثمن، فيسكن في مناطق المهاجرين. وبالتالي أنت انتقلت من مجتمعك، إلى مجتمع مهاجرين. 


يوضح المغترب حديث العهد بأن الحكومة رغم أنها سمحت بقدوم المهاجرين لكنها تنظر إليهم على أنهم "سلعة" تستفيد منها ويقول: "استقبلونا كي نعمل برواتب أقل، خصوصاً الأعمال التي تحتاج إلى جهد بدني، وليس الأعمال المكتبية.


تلك المنغصات بالنسبة له غير كافية لتدفعه إلى العودة إلى بلده: "لا أفكر بالعودة أبداً، لم آتي إلى الحلم الوردي، التحدّيات صعبة، ولكن فقدنا الأمل في سورية، هنا لدي منزل وأستطيع تأمين متطلبات الحياة من مأكل ومشرب وتعليم لأولادي، وهذا جيد بالنسبة لي.


أول تحدّ لنا في المجتمع الجديد، كان نسف مفهوم العائلة عموماً!


"في كندا يتقبلون المهاجرين من مختلف الجنسيات والأديان والأعراق، ويحترمون خصوصيتهم" يقول أديب الشاب الثلاثيني الذي هاجر مع عائلته إلى أوتاوا منذ نحو خمس سنوات. 


يشير أديب إلى التحديات التي واجهته فيقول: "أول تحدّ لنا في المجتمع الجديد، كان نسف مفهوم العائلة، عموماً، يوجد أب وصديقته أو أم وصديقها أو ما يسمى أم عزباء(single mother).


ويتابع مستهجناً: "تجد مراهقات دون سن الـ ١٧عاماً في المدارس حوامل، تعطيها الحكومة راتب لتعيل طفلها وتساعدها على إكمال دراستها!.


وفي المدارس ينفذون حملات توعية للأطفال حول المثلية الجنسية، كما يقولون لهم تستطيعون أن تختاروا جنسكم وتتحولوا من جنس إلى آخر، إن أردتم!، ثمة حرية مبالغ بها في هذا المجال على حد رأيه، ويتابع: "نحن لا نقبل هذه الأفكار على الإطلاق، لافتاً إلى أن الحشيش والمخدرات والكوكايين كله متوفر وقانوني في موطنه الجديد!.


وعن الحياة والعمل يقول: "منذ قدومي بدأت أعمل مع دوام إضافي، أنا وزوجتي، وأصبح لدينا منزل، ووضعنا المادي جيد جداً، ونستطيع تلبية احتياجات عائلتنا لحياة كريمة، وهذا ما كان صعباً علينا تحقيقه في دمشق.


ويضيف عن ساعات العمل الطويلة التي تجعل الوضع الاجتماعي صعباً: "ألتقي بإخوتي مرة في الأسبوع في أفضل الأحوال، أحياناً اجتمع بالأولاد ساعة في اليوم أكون فيها منهكاً غير قادر على تبادل الحديث معهم، حيث استنفذت قواي في العمل.


عندما نجد مفهوم العائلة الذي أتينا فيه من بلادنا متنافراً مع مفهوم العائلة الموجود في أوروبا أو أميركا، هنا تصبح المعاناة واقعة وحقيقية!


يشير الكاتب والطبيب النفسي السوري د. رفيف المهنا، إلى أن الاندماج المجتمعي بالموضوع الصعب والمعقد جداً، لأن كل شخص يريد الحفاظ على خصوصيته في واقع يفرض عليه قواعد عامة.

ويعرفه بأنه القدرة على الانتقال بهدوء من المنطقة الخاصة إلى المنطقة المشتركة، وبأقل الخسائر والصعوبات.


ويؤكد د.المهنا أن الاندماج يرتبط بالمكان الذي تهاجر إليه، فإذا سافر السوري إلى مصر، فقدرته على الاندماج أعلى لأن كمية المشترك مع الآخرين أعلى.
ويوضح: "المجتمع في مصر يشبهه ولا يعاديه، ويتبنى أفكاره الداخلية، فالخروج من الداخل إلى الخارج يكون سهلاً.


المشكلة في أوروبا مثلاً، عندما تكون أفكارك الخاصة غير مسموعة من المحيط العام، هناك تنافر حاد، هنا يكبر الصراع بحسب المكان.


ويتابع: "حتى في أوروبا نفسها نميز مثلاً بين عدة دول، اسبانيا، إيطاليا والبرتغال فيها مفاهيم الحياة أقرب إلى الشرقية، كمكانة العائلة، فكرة الجنس قبل الزواج... لديهم شيء من ضبط لهذه المواضيع، لكن فرنسا وألمانيا والسويد، مفهوم العائلة فيها يتدمرتدريجياً وبشكل نهائي.


ويضيف د.المهنا مؤكداً أهمية ومحورية العائلة في حياة الإنسان: "العائلة هي المنطقة التي يتحرك فيها الإنسان، هي المنطقة الحساسة الني تؤذي شعورنا، فإذا كان مفهوم العائلة الشخصي هو نفسه مفهوم العائلة العام لا يوجد مشكلة، مثل سورية ومصر.


لكن، عندما نجد مفهوم العائلة الذي أتينا فيه من بلادنا متنافراً مع مفهوم العائلة الموجود في أوروبا أو أميركا، هنا تصبح المعاناة واقعة وحقيقية."
نطرح على أنفسنا السؤال المعضلة، إذا أتى ابننا في المستقبل ليخبرنا بأنه "مثلي" فماذا يمكننا أن نفعل؟!.


لا زالت روحي تقطن في دمشق، لكن الواقع المعيشي الاقتصادي الصعب هناك يحتم علينا أن نبني مستقبلنا هنا


أتيتُ إلى ألمانيا منذ سنتين لأعيش مع زوجي الذي سبقني بسنوات كزوجين، تقول جوزفين: "وجدنا مشكلة في الاندماج مع بعض أفكار المجتمع هنا، نحن كسوريين، شعب اجتماعي ودود نحب المساعدة، أما الجو العام هنا، فردي، ذاتي، لطيفون يبتسمون لكن ابتسامتهم تشبه طقس ألمانيا البارد.


وتتابع حول اختلاف الثقافات، كتشريع المثلية الجنسية: "لا نستطيع تقبل هذه الثقافة، ودائماً نطرح على أنفسنا السؤال المعضلة، إذا أتى ابننا في المستقبل ليخبرنا بأنه مثلي فماذا يمكننا أن نفعل؟!.


وتتابع: "طبيعة المجتمع هنا لا تسمح لك بالشعور بالرضى، يجب أن تسعى دائماً للمزيد من الإنجاز في الدراسة والعمل وجمع المال، كل شيء يدفعك لتبقى في منافسة دائمة، لا زالت روحي تقطن في دمشق، لكن الواقع المعيشي الاقتصادي الصعب هناك يحتم علينا أن نبني مستقبلنا هنا.


أعيش في منزل في ألمانيا وليس في ألمانيا، نحن في العمق مازلنا نعيش كما كنا في سورية، فقط الأماكن مختلفة.


تصف (مارييل) وصولها إلى ألمانيا منذ ثماني سنوات فتقول: "كنت أشعر بالترقب والحماس في الكامب المزود بالتفاصيل المريحة، كان فريق "الكاريتاس" المشرف على إدارة الأمر يمتاز بروح ثقافية ووعي مجتمعي، وطلب مني أن أساعدهم في خطة الاندماج التي وضعوها للاجئين وتضم تعلم اللغة ورحلات منظمة في المدينة وكيفية استخدام المرافق العامة والتفاعل في الأنشطة التي تنظمها البلدية، المشكلة الأساسية التي واجهتها هي الهجرة المتأخرة، تعديت الخمسين، وأصبح التبّني للحياة الجديدة أمر بالغ الصعوبة، خاصة لمن لا يملك مؤهل علمي أو مهني، عليه أن يستعد لأدنى درجات العيش.


وتضيف: "المعونة التي أطلق عليها اللاجئون لقب "راتب"، كافية لتغطي تفاصيل الحياة بتواضع شديد، المشكلة في التأمين الصحي المتوفر بالحد الأدنى ولا يغطي كافة المتطلبات، وانتهى بي الأمر أنّي أعيش في منزل في ألمانيا وليس في ألمانيا، وأظن أن هذا حال معظمنا، نحن في العمق مازلنا نعيش كما كنا في سورية، فقط الأماكن مختلفة، إذا كانت حاجتك الأساسيّة روحية لا تستطيع العيش في الغرب، لكن إذا كانت مادية، ستحاول أن تحتمل كل نقص الحاجات الأخرى.

أول ما يفعله الغرب مع المهاجر، تقييده مادياً عن طريق القروض والمساعدات، وهذا ما يحمل الناس على قبول الشروط الخارجية المختلفة عن مبادئنا.

يتابع الدكتور رفيف المهنا، الذي أصر على العودة من فرنسا مع عائلته ليقيم في سورية، متخذاً قراراً يعاكس موجة الهجرة الحالية: "أول ما يفعله الغرب مع المهاجر، تقييده مادياً عن طريق القروض والمساعدات، وهذا ما يحمل الناس على قبول الشروط الخارجية المختلفة عن مبادئنا، والغرب يعرف هذه المعادلة،فهي التي تحملك على القبول أن يمارس ابنك أو ابنتك الجنس قبل الزواج في عمر ال (١٦)؟.


ويضيف: "الأمور مرتبطة بالأولويات، إذا كانت حاجتك الأساسية مادية، ستحاول أن تحتمل كل نقص الحاجات الأخرى، أما إذا كانت روحية فلن تستطيع العيش في الغرب.


وحتى لو لم تكن الحاجة المادية قوية، فالغرب يصنع لك حاجتك المادية له لتدمنه، وقد تمنع الحاجة المادية الإنسان من اكتشاف حاجته الروحية."
وبالنسبة لتشريعات المثلية الجنسية، يقول د. المهنا أن المهاجر مضطر لقبولها، ولو كانت تخالف قناعته، فالقانون في الغرب يمنع بشكل قاطع التعامل مع المثليين بأي تنمّر أو كلام جارح أو أي كلام مسيء.  


ويضيف: "ما أستطيع قوله، حتى في الغرب، الموضوع ليس مقبولاً عموماً، هم يتقبلونه لأنهم يعتبرون أنفسهم متفوقين على بقية الشعوب بأنهم يتقبلون كل شيء، ولديهم حرية الرأي المقدسة وحرية السلوك المقدسة، قدّسوا الحرية لدرجة أصبحوا فيها عمياناً."

بلادنا بوجود الألم والصعوبات تمنحك المعنى العميق للحياة

ويختم د. المهنا حديثه للمشهد بالإجابة عما دفعه ليستبدل الشانزيليزيه بحارات دمشق القديمة: "بالنسبة لي بلادنا تعطينا معنى إنساني للحياة، الوصول للمعنى ليس سهلاً، وأي معنى عميق غالي الثمن، لأنه يرتبط بالألم، لذلك أي محاولة للهروب من الألم تعني الهروب من المعنى العميق أي الهروب من الحياة.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر