"مقابلة مع السيد آدم".. الكاميرا تسبر الجريمة والعقاب
المشهد- بديع صنيج
منذ الحلقات الأولى ضمن مسلسل "مقابلة مع السيد آدم" (سيناريو فادي سليم وشادي كيوان)، تتكشف لنا ملامح دراما محبوكة بطريقة متينة ومشوِّقة وكثيفة الأحداث، ويتعزز فيها الفعل الدرامي مشهداً بعد مشهد، والأهم أنها أتاحت تظهير شخصيات من لحم ودم، عبر إفساح الحرية لها لتقول وتفعل ما تشاء، من دون أن نُلاحظ سطوة الكاتبين عليها، فكل شيء يحدث وكأنه حقيقة، والسلوكيات مُختارة بعناية، فلا شيء مجاني، أو مُقحَم داخل الحكاية، لتتبدَّى لنا حلقة بعد حلقة، الخيوط الأولية لجريمة مُركَّبة تتشابك خيوط الكشف عنها، ورغم حدس المقدم الذكي "ورد.. محمد الأحمد"، ومعرفته غريمه المتمثل بـ"معتصم.. السدير مسعود" ابن العائلة الأرستقراطية والتربية التي جعلته يحس بأنه يستطيع أن يمتلك كل شيء بالمال، والذي زاد من غطرسته برودة أعصاب وانحرافات أخلاقية اكتسبها من دراسته في الغرب، إضافة إلى كونه الولد الوحيد لأمه بعد وفاة والده، إلا أن المحقق لا يستطيع إثبات الجرم عليه، وبعد الاستعانة بالدكتور العبقري "آدم.. غسان مسعود" الذي مَرَّرَ للمقدم معلومة مبدئية بأن الضحية كانت حاملاً، وبدأ يبني عليها تفاصيل تحقيقه، إلا أن "معتصم" بماله ونفوذه واستعانته بمحامية الشيطان "ديالا.. رنا شميس" كنة الدكتور آدم، ومعارفها ومساعدة زوجها "يوسف.. لجين إسماعيل"، تمكنوا من تغيير تقرير الجنائي قبل وصوله إلى فرع الأمن، ثم قام أتباع معتصم من الحصول على صمت الدكتور آدم بعد اختطاف ابنته التي تعاني من متلازمة داون، بحيث أنه أنكر دقة معلوماته عن حمل الضحية، رغم عدم اقتناع المحقق بأن هذا الطبيب الشرعي قد يُخطئ أو يقول معلومة يشك فيها ولو بنسبة ضئيلة.
يتصاعد التوتر الدرامي بعد عودة ابنة آدم "حياة" إلى كنف أبيها ثم وفاتها في اليوم التالي. هنا يضغط الطبيب الشرعي على جرحه ويقرر عدم إخبار أحد بحادثة الوفاة بما فيهم ابنه يوسف، يدفنها في "بيت الضيعة" ثم يبدأ سلسلة من الجرائم بدعم من المؤمنين بقضيته "مصطفى.. مصطفى المصفى" و"ريما.. ضحى الدبس" اللذين كانا يرعيان "حياة" فتاة الداون، والدكتورة النفسية "ريهام.. تولين البكري"، بحيث لم تعد العدالة موجودة بعد الجريمتين المترابطتين اللتين حصلتا، وعلى الجريمة أن تقابل بجريمة وثانية وثالثة... لكن الجرائم حتى الآن تتم وتنفذ وتنشر في وسائط التواصل الاجتماعي بأسماء الشخصيات، لكن من دون جثث، وأغلب الظن أن الأحداث ستتوالى بذات التواتر، لتتكشف خبايا جديدة، بمعنى أن القلق والتَّرقُّب بات الآن في أوجه، لاسيما بعد "مقتل" أحد عناصر الأمن الجنائي المتعاونين في تبديل تقرير الدكتور آدم، ومن ثم الوصول إلى الحلقة الثانية من العصابة وهو الوسيط "أبو جبري.. حسين عباس".
الجميل في هذا العمل هو البناء الدرامي الصحيح، على صعيد الشخصيات أولاً، ثم على صعيد الأحداث المتصاعدة، ودفع المتلقي دائماً لانتظار المزيد، ومحبة أن يعرف ماذا سيحصل في الحلقات القادمة، وكَمَّل ذلك الأداء المتميز لمعظم الممثلين، فثمة بعض المشاهد للفنان "غسان مسعود" لا يستطيع الواحد أمامها إلا أن يقف مدهوشاً كما في الحلقة الأخيرة، في حواره مع ابنه "يوسف" الذي يُخفي عنه وفاة أخته، وأيضاً الفنانة "رنا شميس" في دهقنتها ولعبها على جميع الخيوط بغية الكسب المستمر، وإحساسها باقتراب النهاية، ومداورتها لأحاسيسها وفق مصلحتها الذاتية، ولا ننسى "محمد الأحمد" المتمكِّن من تفاصيل أدائه وحيوية انتقالاته من كون محققاً إلى أب حنون وزوج مُحب، وتحمُّله لنكد زوجته المستمر وتأنيبها له بأنه يبقى بعيداً عن بيته، وأنه يعطي الأولوية لعمله، وأيضاً "مصطفى المصطفى" في شخصية الخاضع لحكم الدكتور آدم وتسلُّطِه، وكذلك "لجين إسماعيل" في شخصية المحامي والابن غير القادر على الإنجاب والزوج المخدوع بدايةً، والمتسلِّط بعنف في النهاية على زوجته، ورد الصاع صاعات متكررة لزوجته اللَّعوب وعاشقة المال، وكل ذلك تحت إدارة متميزة للمخرج "فادي سليم" الذي يثبت عاماً بعد عام بأنه لن يكون رقماً سهلاً في الدراما السورية، فبعد "دومينو" الذي قدمه في العام الماضي، يؤكد مرة أخرى أنه واعٍ للصنعة الإخراجية بكل مفرداتها، وقادر على تحقيق انسجام بين عناصر العمل ككل، واختيار بصمة بصرية خاصة، توازن بين رؤيته خلف الكاميرا والشخصية أمامها، فسعة الكادر تتفق مع ما يريد إظهاره من عمق المشهد، والميزان دقيق بين بؤرة تركيز الكاميرا ودقة ملاحظة الشخصية، والانسجام تام في الانتقال بين الكوادر واللقطات وفق ما تستدعيه الحالة الدرامية، وتطور مسارها وتوتراتها المتكررة، لدرجة أن ضبطه المحكم جعلنا نندغم مع سيرورة الحكاية وننتظر جديدها، ورغم ما أصاب بعض الحلقات من استطالات في بعض الخطوط الدرامية، إلا أنها أسست لتركيز التشويق فيما تلا ذلك، وكأن الكاميرا تسبر الحقيقة، ليس بمعناها الأخلاقي فقط، وإنما بمعناها الدرامي الواسع، وما يتضمنه من مصداقية مشاعر الممثلين، وصوابية اختيارات أماكن التصوير، وإضاءة المشاهد، ودقة اختيارات أماكن الصمت والابتعاد عن الثرثرة البصرية عندما تستدعي الدراما ذلك.
وبكل الحالات ما زلنا ننتظر سبع حلقات لنرى ما إذا كان الدكتور آدم سيصل في النهاية إلى راحة الضمير، كما فعل "راسكولنيكوف" بطل دوستويفسكي في "الجريمة والعقاب"، وهل سيتقبل ذاته مرَّة أخرى بعدما كفر بمبادئه ورمى "القانون" خلف ظهره صانعاً قوانينه الخاصة؟ وأخيراً هل سيعود إلى حياته الحقيقية بعد انتقامه لابنته "حياة"؟