من مذكَّرات مدرِّسة (11) " أين أنتِ؟"

من مذكَّرات مدرِّسة (11) " أين أنتِ؟"

ماري عربش
أين أنتِ؟
يغيب طويلاً ... ويأتي ...
على وسادتي يُسند رأسه ويهمس أين أنتِ؟
وسادتي التي كانت تشهد كل ليلة قبل الاستغراق في النوم تنسيق أعمال اليوم التالي هذا كان ديدني معها عندما آوي إلى فراشي.
كنت أتجاهله، أُشيح بوجهي عنه، أُدير ظهري له.
يبتعد قليلاً ويعود ليهمس: أنتِ ... أنتِ
يترك السؤال معلّقاً متأرجحاً ما بين النور الخافت النافذ من الزجاج والظلمة الحالكة في زوايا الغرفة.
إلى أن يختفي.
كان غيابه يمتدّ لأيّام وقد يصل لأشهر ويتجاوزها أحياناً إلى أعوام.
ولكن ، ما أن أستشعر خطاه الهادئة المتسللة حيناً الصارخة الضاربة حيناً آخر حتى أستجمع كلّ قواي لأهرب منه.
أين المفرّ؟ متى يداهمني؟ وكيف يحاصرني؟ ولماذا يأتي؟
كيف يتجسّس عليّ فيتحيّن قمة ضعفي وتعبي وإرهابي ليتقدّم بعروضه العجيبة الغريبة فتبدو طبيعيّة مرغوبة؟
يأتي مقنّعاً حيناً بأرق العبارات وألطفها وواضحاً جريئاً بأقسى الّلوم وأعنفه.
قليلة هي المرات التي استسلمت وتركت له فسحةً للكلام يتحرج فيها من الماضي إلى الحاضر ليستشرف المستقبل.
لكنّ ذلك الاستسلام لم يكن ليشغلني لأكثر من دقائق معدودة أشعر بعدها بالندم العميق وأعود إلى عالمي الثرّي الغنيّ المفعم بالنشاط والحيويّة.
أعود لنشوة شرح القصائد والنحو.
والقواعد … أعود للسعادة التي تغمر قلبي وروحي وتملأ كياني بتربية ولديّ ونجاحهما ونجاح طلبتي.
ويجرفني تيار مهمّات الحياة ومتطلباتها بعد وفاة زوجي رحمه الله.
وأجد نفسي في خضمّ أمواجها، أخوضها بقوة وصلابة مشحونة بحبّ عميق عميق يدفعني لمتابعة مسيرتي بخطىً حثيثة نحو أهدافي المرجوّة.
كيف عرف طريقي ؟
لم أكن لأتخيّل بأني سوف أسمع: أين أنت وسط كلّ هذا الازدحام من الأصوات الصارخة الداعية لتأدية المهمات المتلاحقة والتي كانت تجعل عينيّ مشدودتين إلى عقارب الساعة ما دمت في بيتي.
هناك …. وفِي آخر المطاف مع (السمسار)
الذي كنت قد طفت معه لأعاين بعض الشقق في دوما وحرستا هناك حيث كان المساء الشتوي قد حلّ والبرد القارس قد اشتدَّ، هناك سمعت صوته يخترق كلّ قهري مستغلّاً كل مشاعر الإحباط من الفشل بالعثور على بيتٍ صغير يحتويني مع ولديّ، هناك سمعته يهمس: وأين أنتِ؟
أذكر تماماً كيف تملّكني الغضب وكيف انهمرت دموعي حارقةً.
ولمّا استعدت هدوئي قلت بحزم: لا، لا لم يكن هو سبب هذه الدموع، ممّا لا شكّ فيه أنَّ السبب الحقيقي هو فشل مهمتي.
ورحت مرّة أخرى أضرب أخماسي بأسداسي والنتيجة هي هي لغير صالحي.
كنت أحدّد مواعيدي مع السماسرة بعد انتهاء دوامي الكامل ووصول ولديّ إلى غرفتنا في ذلك البيت الذي لا تزيد مساحته عن الخمسين متراً والذي تشغله ثلاث عائلات ونحن منهم .. كنت أنسّق لولديّ دروسهما وأنطلق في رحلة البحث عن شقّة صغيرة .. واتسعت دائرة البحث لتصل إلى جرمانا وجوبر وعين ترما وحينة وعربين وصحنايا و و و و …
وأخيراً استقرّ بنا المقام في حرستا.
وكان لا بدّ من إعطاء الدروس الخاصة في البيوت كي أتمكّن من تأمين الحياة الكريمة لولديّ وإتمام تعليمهما.
كنت أستقلّ أحياناً ثلاثة (سنافير) لأصل إلى البيت المقصود.
كنت دائماً أحدّد لولديّ موعد عودتي على وجه التقريب .. وكنت إذا ما تأخرت بسبب طول الدرس أو عرقلة المواصلات، أشعر بالذنب والخطأ.
وذات مرة وفي طريق عودتي والسنفور بين دمشق وحرستا غاص بالركاب، فوجئت من جديد بالصوت ذاته والسؤال ذاته … أين أنتِ؟
لا أدري لماذا خطرت ببالي في ذلك اليوم والسنفور يميل على جانبيه ويسير ببطءٍ وتريّث، خطرت ببالي الراهبة التي كانت تعلمنا في المرحلة الابتدائية soeur أميلي
وسمعت صوتها يتردّد في أعماق قلبي كما كنت أسمعه في ذلك الصفّ الصغير المطلّ على حديقة بيت الراهبات المشتعلة بكلّ ألوان الورود والأزهار والتي يخترقها جدول صغير من الماء كنا نسميه نهر الراهبات.
هناك في ذلك الصفّ كانت الراهبة تقول لنا دائماً: لا تصغي لصوت الشيطان.
ولمّا سألتها ذات مرّة كيف نميّزه؟
أجابت: يأتي هامساً ويكرّر همسه…
ها .. إذن هذا صوت الشيطان.
أتذكّر كيف ابتسمت لاستعادة ذكرى طفوليَّة محبّبة واستعادة استعراض أجواء مدرسة عزيزة.
واليوم وأنا أعيش وراء محيطات تفصل بيني وبين هاتيك السنوات الطوال التي كانت تغلي وتفور بالحياة، يمتثل أمامي ليضاعف السؤال: أين أنتِ؟ وأين كنتِ؟ أين أنت من ذاتك وماذا فعلت لنفسك؟
ألتزم الصمت في هذه البلاد البعيدة وقطار العمر يتقدّم بيَ والزمن يشعرني بالضعف…
ألتزم الصمت مذهولة مستهجنة ملاحقته لي بعد كلّ هذا العمر ليؤكّد إصراره على سماع إجابتي…
أين كنت؟
كنت أعيش حياتي كما فهمتها، كما فهمت معناها وقدّسته وكرّست أيّامي له.
ألم تر كم كنت سعيدة بكل ما أنجزت؟
أمّاً وأنا هنا .. أخبرك بأن الدنيا بأسرها لا تتّسع لسعادتي وأنا أرى عينيّ ولدي عبود تشعُّ رضاً وفرحاً وهو يسعى بكلّ جهده لتحقيق طموحاته التي يعشقها ويقدّسها.
الدنيا لا تتّسع لسعادتي وأنا أقف أمام باب عيادة طبيّة أنيقة مرتّبة وأقرأ اسم ابنتي ديمة وزوجها ماجد.
هنا ذاتي … ذاتي في تطلعات ابني وفي تلك الحروف النافرة لاسم ابنتي.
فهل تجرؤ بعد اليوم على السؤال؟
وأخيراً وليس آخراً
لقد توقفت عند محطة واحدة من مهمات حياتي (البحث عن البيت)
لكنّ المهمات كلها كانت صعبة وقاسية وأكاد اليوم وأنا ألتفت إليها أكاد لا أصدّق بأني تجاوزتها.
كلماتي هذه أشارك فيها معظم اللواتي في مثل عمري أو بعيدات عني سنوات قليلة تقدّماً أو تأخّراً .. فمعظم جيلنا فهم الحياة عطاءً مقترناً بالفرح والسعادة.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر