"أثر الفراشة" حبّ في زمن الكوليرا

"أثر الفراشة" حبّ في زمن الكوليرا

جهاد عيسى

عُرف عن الكاتب الروائي الراحل "غابرييل غارسيا ماركيز" أنه رفض كل العروض التي قدمت له لتحويل رواياته إلى أفلام سينيمائية أو أعمال تلفزيونية، فهو كان يريد أن تبقى مخيلة القاريء حرة وغير مؤطرة، وقد عبر عن ذلك بقوله: " أنا أفضل أن يتخيل قاريء كتابي الشخصيات كما يحلو له، أن يرسم ملامحها مثلما يريد، أما عندما يشاهد الرواية على الشاشة فإن الشخصيات ستصبح ذات أشكال محددة، هي أشكال الممثلين، وهي ليست تلك الشخصيات التي يمكن أن يتخيلها المرء اثناء القراءة". 
في الحقيقة، لم يكن "ماركيز" الروائي الوحيد الذي اتخذ موقفاً في هذا الموضوع الإشكالي، أي موضوع العلاقة بين الرواية الأدبية والعمل الفني المرئي (التلفزيوني أو السينمائي)، إلا أن مواقف الروائيين لم تكن موحدة في هذه القضية، ففي الوقت الذي وافق بعضهم ماركيز في رؤيته، ذهب آخرون إلى الترحيب بذلك، واعتباره عنصراً مساعداً في وصول العمل الأدبي، أو وصول مقولاتهم الفكرية والأدبية التي ضمنوها في الرواية إلى فئة لا يستهان بها من المتلقين الذين لا يقرؤون، والذين ماكان لهذا العمل الأدبي أن يصل إليهم لولا تحويله إلى عمل فني، ويدعمون كلامهم بالاستشهاد بكم الروايات التي ارتفعت مبيعاتها بشكل خرافي بعد ذيوع صيتها الذي أسهم فيه هذا الأمر (حتى أن بعضهم هم من قاموا بعملية التحويل تلك، وهم من قاموا بإعداد نصهم الروائي وكتابه السيناريو التلفزيوني أو السينمائي له)، وتأرجحت مواقف فئة ثالثة بين الترحيب والرفض وذلك بناء على تلقيهم للعمل الفني المنجز انطلاقاً من رواية لهم، لدرجة أن الروائي السوري الراحل حنا مينة (وهو من أكثر الروائيين العرب الذين حولت روايتهم إلى أفلام أو مسلسلات)، قد قال ذات مرة في معرض تقييمه لمسلسل اقتبس من إحدى رواياته (ما معناه): "هذا العمل ليس لي، هذا العمل لا يشبهني ولا يشبه روايتي". 
بالعودة إلى البعد الإشكالي، نجد أن المواقف قد تباينت أيضاً، ففي الوقت الذي تعصب فيه بعضهم للعمل الأدبي وقاربوا الأمر من زاوية "ماركيز" آنفة الذكر، ورأوا أن العمل الفني يسهم في تأطير العمل الأدبي وتقييد مخيلة المتلقي، الأمر الذي يسقط جوهر فن الرواية القائم على بناء عوالم وفضاءات وشخوص على الورق وترك الحرية للقاريء أن يقوم برسمها وتشكيلها في مخيلته، ذهب آخرون إلى تعصب من نوع آخر مرتبط بمقولات النص الروائي من جهة، أو بالفوارق بين شروط العمل الروائي وشروط العمل الفني، وجاء تخوفهم لناحية الأمانة مع النص ومقولاته الفكرية.  
قد يكون أمراً طوباوياً أن نبقي الأمر ضمن حدود الإشكالية الفكرية أو الأدبية أو الفنية، إذا لا تخلو مواقف بعض الرافضين من نرجسية خاصة تنطلق من تقديس نصوصهم، وكل كلمة أو صورة تضمنتها، واعتبار أن أي مقاربة يقدم عليها أحد غيرهم هي مقاربة تشوه ما أرادوه، مع أن بعضهم تصالحوا مع هذا الأمر باعتبار أن النص الذي قاموا هم بكتابته، بمجرد أن وضعوه بين أيدي القراء، لم يعد ملكهم، ولكل مقاربته بالطريقة التي يريد، وبالنتيجة نصبح أمام نصين أدبيين لنفس الرواية، النص الذي قام كاتب الرواية بكتابته، والنص الآخر الذي عمل عليه كاتب السيناريو. في الوقت نفسه، لاتخلو مواقف بعض المرحبين من انتهازية قائمة على الترحيب بالأمر من باب مساعدتهم على الانتشار والشهرة. 
لا يقف هذا الأمر عند حدود الروائيين أنفسهم، إذ أن لكتاب السيناريو أيضاً انقساماتهم في مقاربة الأمر، ففي الوقت الذي يعمل فيه بعض كتاب السيناريو على نص الرواية بحذافيره، يذهب بعضهم إلى اختلاف الشرط الفني عن الشرط الروائي، لناحية ضرورة تحويل الكم الهائل من سرديات النص والمونولوجات الداخلية لشخوص الرواية إلى صور من لحم ودم وحوارات منطوقة تكسر مساحات الصمت الهائلة التي من الممكن أن تحتويها المشاهد فيما لو تمسكنا بحرفية النص الروائي، ويذهب البعض الآخر، إلى حقهم في إبراز شخصيتهم وعدم ذوبانها في شخصية مؤلف الرواية، فأضافوا بعض المحاور وأحياناً بعض الشخوص والأحداث، وضخموا محاور في الرواية وأهملوا أخرى، و "احتالوا" على الأمر بالقول أن هذا العمل "مستوحى من" أو "مأخوذ عن" الرواية، وليس الرواية بحد ذاتها.  
إن كل ماسبق من كلام (وإن كان موضوعاً مطروحاً للنقاش والجدل منذ اللحظة الأولى التي تم فيها تحويل نص روائي إلى عمل فني، ومازال مطروحاً للآن، بعد كل هذه السلسلة الهائلة من الروايات التي وظفت فنياً عبر تاريخ الفن المرئي)، إلا أنني أورده اليوم بمناسبة الحديث عن المسلسل التلفزيوني "أثر الفراشة" الذي قام الكاتب السوري "محمود عبد الكريم" بكتابته كنص مستوحى عن رواية "حب في زمن الكوليرا" للروائي "غابرييل غارسيا ماركيز"، وتولت المؤسسة العامة للانتاج التلفزيوني إنتاجه، ويعرض خلال شهر رمضان الحالي على شاشة الفضائية السورية. 
وإذا كنا قد قلنا أن الروائيين وكتاب السيناريو منقسمون، فإن هذا لايعني أن طرفاً ثالثاً في هذه المعادلة (ألا وهو المتلقي) لا يمكن إنكار موقفه، فالمتلقون (سواء كانوا قراء أو مشاهدين) منقسمون أيضاً، ولا أخفي أنني، عندما سمعت منذ بضعة أشهر أن هناك عملاً تلفزيونياً يتم تصويره انطلاقاً من الرواية المذكورة، تساءلت كثيراً، كيف يمكن أن تتم مقاربة نصوص كاتب كـ "ماركيز" مقاربة درامية؟ وما الحلول التي أوجدها الكاتب للإسهاب الهائل في التصوير والحوارات الداخلية للأبطال، الذي مارسه ماركيز في هذه الرواية؟ وكيف تعامل مع اختلاف البيئة والزمان والمكان بين مجتمع أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر، ومجتمعنا العربي في القرن الحادي والعشرين؟
جاء العمل ليقدم لي أجوبته الشافية (في الحلقات التي عرضت حتى الآن)، فالكاتب محمود عبد الكريم القادم من زمن الرومانسية الجميل الذي ازدهر في مجتمعاتنا العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، يحاول جاهداً الانتصار للحب والخير والجمال، سواء عبر القصة الرئيسية في العمل المستوحاة من قصة الرواية، أو من خلال المحاور والشخوص الأخرى التي أضافها إلى العمل، وجاء المخرج ليعزز هذه الروح من خلال صورة بصرية حساسة ومرهفة لأدنى الجماليات وتلتقط أبسط الحركات والسكنات بشفافية عالية، وإذا كان زمن الكوليرا الذي تحدث عنه ماركيز في روايته، هو زمن كوليرا فعلية، فإن زمن الكوليرا في المسلسل، هو زمن كوليرا رمزية، كوليرا التصحر الروحي والعاطفي، كوليرا المادية والجشع والحقد والكره، كوليرا العزلة والاغتراب عن الذات. 
إذا أردنا مقاربة هذا العمل من زاوية وجهة نظر ماركيز "المشار إليها أعلاه"،  ربما يكون ماركيز محقاً لناحية تأطير المخيلة، وهذا مطب يبدو أنه لا مهرب منه، وشعور سيلازم كل من قرأ الرواية أولاً وبعدها شاهد العمل التلفزيوني وربما يكون معاكساً في حالة من سيقرأ الرواية بعد أن يتابع المسلسل، ولكن هذا الأمر لا ينتقص من قيمة كليهما. 
ربما يكون من المبكر الحكم على العمل، لكن ماتلقيناه حتى الآن من حلقاته الثمان الأولى، يوحي بأننا أمام كأس نبيذ معتق، سرى خدره في روحنا مع أول رشفة، لكننا ننتظر نشوة كبرى ربما لن تتأتى إلا مع آخر رشفة.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني