من مذكرات مدرّسة (8): "جلسة خاصة ... وخاصة جدّاً!"

من مذكرات مدرّسة (8): "جلسة خاصة ... وخاصة جدّاً!"

ماري عربش
هل أستطيع زيارتكم في البيت مساءً
لم يكن الصوت غريباً تماماً ولكني لم أتمكّن من تحديد صاحبه
توقّفت لحظات قبل أن أسأله عن اسمه... وكأنّه أدرك حيرتي فأردف قائلاً
أنا فلان
أهلاً وسهلاً بالتأكيد يمكنك زيارتنا
في تلك الغرفة العالية إلى حدّ ما والتي يؤدّي إليها درج مكشوف حيث كنت أستقبل العديد من طالباتي وطلابي ، استقبلته
كانت أمّي ترحّب به صديقاً للعائلة وزميلاً لأخي الأكبر في المدرسة
مرتبكاً جلس على أول كرسيّ قرب الباب
كانت ملامح وجهه تنمّ عن قلق ما
وبينما كان يبادل أمي بعض الذكريات التي تربط العائلتين ، كان رأسي يضجّ بأسئلة متلاحقة تترقّب إجابات
ما الذي يريده؟؟ ولماذا طلب الزيارة في البيت ؟؟
قبل أسبوعين زارني في غرفة الإدارة ... جاء مستفسراً عن وضع ابنته في المدرسة وطمأنته ... فهي طالبة مهذّبة مجتهدة
تُرى ما الذي يخفيه ؟؟ ماذا سيقول ؟؟
ووجدتني أمهّد له الطريق إذ بادرت بالإشادة بابنته
وكمن فتح ثغرة في سدّ يحجز المياه راحت كلماته تتدفّق
وبسببها أنا هنا .. نعم بشأن ابنتي جئت إليك
آنسة ماري أنا شخصيّاً أريدك أن تستمرّي في إدارة الثانوية قال عبارته هذه وكأنها قرار مُلزم
نعم أريدك أن تستمري لأني ومعي كثيرون من الأهالي نريد أن تظلّي مديرة لثانوية بلدتنا لأنك القدوة التي نبتغيها لبناتنا أجل أنت القدوة فنحن معجبون جدّاً بطريقة تعاملك مع الطالبات وفِي كلّ موقف تؤكدين اهتمامك بتربية نفوسهن وتهذيبها
وراح يسرد مواقف عديدة كنت أعتقد دائماً أنها لم تخرج عن إطار ما هو خاص بيني وبينهن
نعم يا آنسة نحن نريد هذا التوجيه
كان يقول كلامه دون توقّف متحمّساً منفعلاً  مغيّرا وتيرة ارتفاع الصوت وانخفاضه إلى أن توقّف وصمت لدقيقة  ربّما دقيقتين ليقول
أنت تعرفين منصبي .. أنا عضو في مكتب التربية وأنا مسؤول عن .... وعن .... وعن....
كان عقلي ذاهلاً عن تتبع تلك المسؤوليات مشغولاً بفكرة واحدة
ما الذي يريده في النهاية؟؟؟
وكأنه استجمع كلّ قواه : أنا سأقول كلاماً خطيراً عليّ إذا ما نُشر
ولكني واثق منك كل الثقة ومن السيدة والدتك
أنا كلّما كنت في اجتماع مع أعضاء مكتب التربية لا أدري لماذ أقول في نفسي بعد الاستماع إلى كلّ المداخلات
نحن في زمن كلّما كان الإنسان فيه حقيراً كلّما علا منصبه
وتوقّف .. وكأنّي رأيت رشح قطرات عرق تنزلق فوق وجهه مع انزلاق هذه العبارة الخطيرة كما وصفها ، من فمه
سكت وراح يجول ببصره في أرجاء الغرفة
تُرى هل من أحدٍ قد سمعه ؟؟؟ هل هناك من مُخبرين ؟؟ هل يستطيع لملمة المياه التي سُكبت ؟؟؟
وجّه نظره إلى أمي
لم يلحظ على ما بدا له أيّ انطباعٍ غريب
وبدوري نظرت إليها لأُدرك بأنها بعيدة عنّا كثيراً ربما كانت غارقة في تذكّر تفاصيل طبخة شهية للغد
وكمن استعاد تمسّكه بموقف كان قد عزم على تنفيذه
راح يكمل حديثه قبل أن يضعف ويتراجع
نعم يا آنسة لو لم أكن وصوليّاً لما رأيتني في ذلك الموقع
أنا وفلان وفلان وفلان وراح يعدد أسماء أشخاص يحسب الناس ألف حساب قبل أن يلتقوا بهم
نعم هذا نحن
فماذا تقولين؟؟؟
وبكل هدوء أعرفه في نفسي يمتلكني كلّما اشتدّت المواقف صعوبة
قلت : يا أستاذ ..م ...
ماذا تريد أن تقول
أنا متأكدة بأنك لم تأت لتنقل إليَّ هذه المعلومة ....
ولكنّه استأنف كلامه عارضاً لي بعضاً من المواقف التي ألبسته ومن عدّد من رفاقه صفة الوصولية
لم َ أنت مرتبك يا أستاذ؟؟
ما الذي تريد أن تقوله لي تحديداً
استعاد بعض هدوئه وقال : أريد ابنتي
أريدها إنسانة صادقة واضحةً
أنت تعرفين أني أمضيت سنواتٍ ليست بالقليلة خارج البلد وتعرّفت إلى الثقافة الغربية وأولادي عاشوها
واليوم أشعر بضياعهم في كلّ هذه الأجواء العفنة
يا الهي يا الهي
كيف يمتلك الإنسان القدرة على إسقاط كلّ أقنعته الكاذبة عندما يتعلق الأمر  بمشاعر المسؤولية الكبيرة والحب العميق للأولاد
إنّها عاطفة أب صادق أطاحت بكل ثوب مستعار يرتديه لساعات أو لأيام قد تطول وقد تقصر.......
نعم أريد ابنتي ولذلك أريد أن تستمري في إدارة المدرسة
وبمطلق الصراحة أقول لك أنت مهدّدة بانتزاع الإدارة منك
لم يفسح لي مجالاً لأقول له بأنّ الإدارة لا تعني لي شيئاً على الإطلاق وبأني أعشق التدريس الذي يسري حبّه في شراييني
كان متعجّلاً بقول كلّ ما لديه كمن يريد التخلّص من عبء ثقيل يحمله في روحه
يا آنسة أنت ترفضين جلّ طلبات الشعبة الحزبيّة
وهذا ما يدعو أعضاءها لتنحيتك
ألم ترفضي طلب رئيس الشعبة عندما سألك ......
أولم ترفضي طلب المسؤول .....
وطلب المسؤول
و ....
وبينما كان يكدّس الطلبات المرفوضة
كنت أستعرض بيني وبين نفسي
مضامين تلك الطلبات التي لا تمت إلى المنطق ولا إلى القانون ولا إلى الإنسانية .. بصلة...
نعم كلّها تكرّس المصلحة الخاصة والخاصة جداً وتحاول رفع شأن بنات المسؤلين على حساب بنات الناس الشرفاء العاديين وربّما الفقراء منهم
والأستاذ الواقف بين فكي كمّاشة كان يتابع حديثه وردّني إليه عندما قال
المعادلة واضحة تماماً
إن لم تنفذّي .........
ولا أخفيك بأنّ الكثيرين ممن يعارضونك في العلانية يكنون لك كلّ الاحترام
وأعود لأكرّر  لك بأنّنا معجبون بتوجيهاتك ونريدك أن تستمري في الإدارة
فماذا تقولين
أخذت نفساً عميقاً وقلت له
يا أستاذ
أولاً أشكرك على ثقتك وأثمن صدق مشاعرك ومن معك تجاهي
لكنّ قصة صغيرة تحضرني أودّ أن أخبرك بها وهي الكفيلة بحمل ردّي إليك
لقد كبرت في حارتنا بنت تميّزت بلطفها وجمالها وأدبها
وذات يوم  فوجئنا بأنّها قرّرت نذر نفسها للرهبنة
والتحقت بدير  للراهبات في بيروت
تابعت تعليمها وهي ملتزمة وبقناعة حرّة كاملة بالطريق التي اختارتها متمسّكة بكل قيمها ومبادئها
وشاءت المصادفات أن يلتقيها في الجامعة شاب استحوذت كلّ إعجابه وتملّكت كلّ مشاعره
وما فتئ يردِّد على مسامعها عبارات عبارات إعجابه العميق بها وكان صادقاً كلّ الصدق
وكانت كلّما عادت إلى غرفتها في ذلك الدير  المتربع على قمة جبل عالٍ والمطلّ من الغرب على البحر ومن الشرق على امتداد تلال من الأشجار المتنوّعة الاخضرار ، كانت تستعيد
بغبطة وسعادة ونشوة روحيّة كل هاتيك العبارات
وما فتئ ذلك العاشق الولهان الصادق يحاول إقناعها بالتخلي عن الرهبنة ليرتبطا معاً
وذات يوم وُجدت رسالة قصيرة فوق ثوباالأسود الملقى على السرير تقول فيها :
أطلب منكم السماح فأنا غادرت ولن أعود
وانطلقت على أجنحة تلك العبارات إليه
وكانت المفاجأة المذهلة
لقد خمدت كلّ مشاعره وانطفأت
كان معجباً بها راهبة متمسّكة بكل قيمها ومبادئها  
أما وقد ......
فإن كنت يا أستاذ تريدني قدوة لابنتك
فانتظر منها أن ترفض كل ّ طلب لا منطق فيه ولا قانون ولا انسانيّة
وبعد فتره عدتُ الى التدريس.....

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر